مسألة العلمية في العلوم الإنسانية

تــــقــــديــم:
         هناك شيء من الإجماع لدى الباحثين في مجال العلوم الإنسانية أن موضوع الإنسان قد اعتبر منذ زمن طويل- من التاريخ الفلسفي- محط اهتمام الفلاسفة ومرتعا لتأملاتهم، وكذا نظراتهم الفلسفية المجردة، لكن هذا التصور لمفهوم الإنسان ظل حبيس النظر والتأمل الميتافيزيقي.
من الواضح أن هذا التصور الكلاسيكي لمفهوم الإنسان سيتغير نتيجة التقدم الكبير الذي شهده مجال العلوم الطبيعية، وذلك عبر تحكم الإنسان في الطبيعة والسيطرة عليها بطرق عقلانية، الشيء الذي فرض ضرورة التفكير في إمكانية تأسيس ما نسميه بالعلوم الإنسانية، ودراسة الظواهر الاجتماعية بطرق عقلانية تتخذ من المنهج العلمي نموذجا لها، بهدف تحقيق أكبر قدر من الموضوعية.
ولا شك أن نشأة العلوم الانسانية خلال القرن التاسع عشر ساهمت في ميلاد عدة إشكالات وتساؤلات يمكن تلخيصها في النقاشات التي تشهدها الساحة الفكرية حول القيمة الموضوعية للعلوم الانسانية، ومدى إمكانية تأسيس معرفة موضوعية بالظاهرة الانسانية التي يتداخل فيها عنصري الذات والموضوع في الآن نفسه، وهل تخضع الظاهرة الانسانية في دراستها للفهم أم للتفسير؟ وما هو النموذج العلمي الملائم لهذه الظاهرة وأخيرا ما هي السوسيولوجيا؟ وما هو منهجها وموضوعها؟ كل هذه الإشكالات والتساؤلات ستساهم في ميلاد اتجاهين أو موقفين متمايزين، الأول منهما يسمى بالاتجاه الوضعي أو الطبيعي الذي  يستمد جذوره من الموقف الديكارتي الذي يطرح إمكانية دراسة الظاهرة الانسانية دراسة موضوعية وذلك من خلال تشييئها ووضع ذات الدارس وكل ما يرتبط بها بين قوسين، وهذا ما تقوم عليه دراسة الظواهر الفيزيائية، غير أن هذا الموقف الذي استلهم المنهج التجريبي، واعتبر أن الظواهر الانسانية لا تتنافى مع الظواهر الفيزيائية من حيث الشروط المنطقية، واجه انتقادات كثيرة أثارت جدالا حول مسألة تداخل الذات والموضوع، باعتبار أن الفعل الإنساني فعل هادف ومقصود، له غايات وإرادات تحددها الذات.
وفي مقابل هذا الاتجاه نجد موقف الفهم الذاتي التأويلي الذي يقر به ماكس فيبر، والذي يعتبر أن الظاهرة الانسانية هي ظاهرة جد معقدة وبالتالي فتطبيق المنهج التجريبي إزاء هذه الظاهرة صعب المنال.
وإذا كانت الظاهرة الفيزيائية نعتمد في دراستها على التفسير والتنبؤ فإن الفعل الإنساني عكس ذلك، يتخذ وسطا بينهما وبالتالي فهو يخضع للتأويل والفهم الذي يساعدنا على فهم مقاصد ودلالات وغايات الفعل الإنساني التي تحددها الذات، هذه الأخيرة التي تحتل مكانة كبرى عند بعض التيارات الفلسفية من خلال التجربة المعيشية التي عاشتها هذه الذات والتي تتلخص لنا في المعرفة التي نكونها عن هذا العالم بواسطة هذه الذات.
هذا النقاش بين مسألة الفهم والتفسير في الظاهرة الانسانية سيجعل الدارسين يطرحون السؤال حول النموذج العلمي بالنسبة للعلوم الانسانية، ومن هنا سيبرز السؤال حول مدى إمكانية تطبيق المنهج التجريبي لضمان أكبر قدر من الموضوعية في العلوم الانسانية. إن إمكانية تطبيق النموذج العلمي في العلوم الانسانية ستفرض ضرورة التفكير في طبيعة هذه العلوم ومدى صلاحية المنهج فيها.
وإذا واجه هذا الموقف رفضا بسبب مدى تعقيد الظاهرة الانسانية فإنه في المقابل نجد أن بعض التيارات أي تمايز بين كل من الظاهرة الانسانية والظاهرة الفيزيائية، فيما يخص مسألة تدخل الذات، لكن هذه التيارات  ترى أنه يجب أن تتوفر هناك شروط إضافة للتحكم في الظاهرة الانسانية  والتمكن من دراستها دراسة موضوعية، لكن هذه الدراسة الموضوعية تجمل الفلاسفة الفينومينولوجيين يقفون موقف رفض منها، معتبرين أنها تجزئ الإنسان وتنسى تجربته الذاتية التي تزوده بكل معارفه عن العالم وتعتبر مصدرا لها.
أما السوسيولوجيا كعلم يختص بدراسة الإنسان ككائن اجتماعي باعتباره عضوا في مؤسسة اجتماعية فقد اصطدمت بجملة من الصعوبات وعرفت مجموعة من الإشكاليات سواء على مستوى الموضوع أو المنهج أو النظرية ويرجع ذلك إلى طبيعة الظاهرة الاجتماعية باعتبارها ظاهرة واعية يتداخل فيها عنصر الوعي والإرادة والقصد وهنا يطرح التساؤل عن طبيعة المنهج والنظرية المتبعة في دراسة الظاهرة الاجتماعية، وأمام ذلك تجد السوسيولوجيا نفسها حرجا في الجسم بين خيارين متباينين: الأول هو التماهي التام مع العلوم التجريبية ونقصد هنا اقتباس النموذج العلمي المتبع في العلوم الطبيعية وتطبيقية على الظواهر الاجتماعية الثاني وهو  القطيعة التامة مع العلوم التجريبية واعتماد نموذج ملائم لطبيعة الظاهرة الاجتماعية بالشكل الذي يحقق الموضوعية ولا يلغي فاعلية الذات.
ما من شك أن العلوم الانسانية في سعيها المتواصل أن تتحرر من قيود الإرث الفلسفي التأملي حيث ظلت على الرغم من ذلك عاجزة عن استيفاء شرط ما يسمى بالموضوعية ومرد هذا يمكن أن نرجعه لأسباب مبدئية تتصل بطبيعة الظواهر الانسانية المبحوثة ذاتها، كذلك يمكن اعتبار الظاهرة الانسانية، ظاهرة مركبة أو معقدة إن صح القول، حيث أن الظواهر والأفعال الانسانية هي ظواهر واعية إرادية لا تتكرر ولا تخضع للإطراد، من هنا حق لنا أن نتساءل عما إذا كان الإنسان ذاتا للمعرفة، وموضوعا لها في الآن نفسه؟ هل هناك إجماع بين الباحثين في مجال العلوم الانسانية حول القيمة الموضوعية للعلوم الانسانية؟ ما الذي يترتب على استحالة تجرد الباحث في العلوم الانسانية من املاءات اللاوعي وقبليات الحس المشترك وأخيرا ما هي  العوائق التي تحول دون تأسيس معرفة موضوعية في العلوم الانسانية؟
لمعالجة هذه التساؤلات وغيرها يدعونا هذا إلى الانفتاح على العديد من التصورات بغية اقتفاء أثر الجواب عنها.
I-- الموضوعية في العلوم الانسانية.-
يطرح لوسيان غولدمان إشكالية الفهم الموضوعي للواقع في العلوم الانسانية، حيث يقر هذا الأخير بعجز العلوم الانسانية عن التحرر من عقال الإرث الفلسفي التأملي نظرا لعدم استيفائها شرط الموضوعية ومرد هذا أن الباحث في مجال العلوم الانسانية أثناء معالجته لظاهرة إنسانية يعجز عن التخلص من مواقفه المضمرة وأحكامه القبلية، أي المسبقة ثم نوازعه اللاواعية، أي استحالة تجرد الباحث في العلوم الانسانية من املاءات اللاوعي، وقبليات الحس المشترك، كما يتطرق لوسيان إلى بعض العوائق التي تحول دون تأسيس معرفة موضوعية في العلوم الانسانية، ولتدعيم أطروحته هاته يعزز كما يذيل موقفه بالاستناد إلى بعض الحجج التي تصبو إلى إثبات مذكرته، وذلك من خلال إبرازه لمناحي الاختلاف بين شروط عمل الفيزيائي أو الكيميائي يجد منطلقه في اتفاق فعلي أو ضمني بين سائر الطبقات التي تكون المجتمع المعاصر، حول قيمته وطبيعته ومقصده، كما يرى لوسيان أن المغرفة العلمية هي الأكثر مطابقة للواقع الفيزيائي والأكثر فعالية ونجاعة، وفي هذا السياق لا يمكن غزو الشخصية في قبيل غياب روح النسقية، ثم انعدام الرؤية النافذة، وكذا الغرور والانطباع الانفعالي، وفي أقصى الأحوال غياب النزاهة الفكرية، على النقيض من ذلك نجد بأن وضعية العلوم الانسانية تختلف عن المعرفة التي تشكل أرضية أو أساس العلوم الفيزيائية – الكيميائية، فبدلا من الإجماع الضمني أو الصريح بين أحكام القيمة حول البحث العلمي فإننا نجد في العلوم الانسانية اختلافات جذرية في المواقف من هنا يبرز لنا لوسيان غولدمان انعدام الفهم الموضوعي في واقع العلوم الانسانية ثم استحالة تجرد الباحث في العلوم الانسانية مما هو قبلي أو مواقف ذاتية، لان الباحث يتصدى في غالب الأحيان للوقائع مزودا بمفاهيم قبلية ومقولات مضمرة ولا واعية تسد عليه طريق الفهم الموضوعي بشكل قبلي، في هذا الإطار نجد بأن إيميل دوركهايم يقر بأن الظواهر الاجتماعية في ذاتها هي ظواهر مستقلة عن الذوات الواعية التي تتمثلها وبالتالي يجب دراستها من الخارج، من هنا نستشف أن الإنسان ليس ذاتا للمعرفة وموضوعا لها في الآن نفسه، في هذا النطاق تبرز أو تقر بوفريس رينيه فكرة جوهرية مفادها أن العلوم الانسانية بالرغم من نشأتها، وإرساء أسسها، في القرن 19، في سياق ابيستمولوجي خاص يصغي إلى الارتقاء إلى مستوى تطبيق النموذج الفيزيائي التجريبي على دراسة الإنسان، فإنها عجزت أن تفي بشرط الموضوعية لأسباب مبدئية تتصل أو رهنية إن صح القول- بطبيعة الظواهر الانسانية المبحوثة ذاتها، من هنا يتبين لنا جليا أن الباحثة بوفريس تطرح مشكلة الموضوعية في العلوم الانسانية بين التصور الوضعي والتصور النقدي، حيث ترى بوفريس أن المعرفة التي يكونها الإنسان عن نفسه تبقى دائما، وبعيدا عن أن تكون محايدة، مشبعة بالذاتية، كما أن النظرة التي تشكل علم النفس هي ظاهرة نفسانية، كذا علم الاجتماع هو ظاهرة سوسيولوجية تخص العالم الحديث، وبالتالي يستحيل مبدئيا أن تتمكن العلوم الانسانية من الوصول أو بلوغ الموضوعية المطلقة، أو التخلي عن جزء من أهدافها وغاياتها ثم الاكتفاء بدراسة المظاهر الأولية من الحقيقة أو الواقعة الانسانية.
في هذا الإطار نجد بأن ميشيل نوكويلتقي مع لوسيان غولدمان، حين يقر بأن مسألة العلوم الانسانية، في علاقتها بالعلوم الأخرى، سعيا وراء إبراز خصوصية الظاهرة الانسانية- باعتبارها ظاهرة معقدة وبالتالي متعددة الأبعاد ونقطة لتقاطع مجموعة من العلوم، مما يجعل دراستها أمرا صعبا، كما يعالج ليڤيستروس فكرة جوهرية في هذا السياق مفادها أن مسألة الظاهرة الانسانية وكيفية موضعتها أمام الصعوبة التي تطرحها ثنائية الملاحظ  والملاحظ،، وكذا كيفية الحفاظ على خصوصية هذه الظاهرة الانسانية وكيفية تناولها من طرف علوم الإنسان من جهة، ومن طرف الفلسفة من جهة أخرى، على النقيض من ذلك يحاول دوفرين M.Doufrenne  أن يعكس وجهة نظر مغايرة تنتصر للإنسان في أبعاده المتميزة بدل التركيز عليه كموضوع مما يؤدي إلى إفقاره، وسلب الخصائص الوجودية التي تضفي عليه طابعه المتفرد، بيد أن جون پياجي في إبستمولوجية العلوم الانسانية (1970) يقدم تصورا متكاملا عن الإشكالات الإبستمولوجية التي تواجهها العلوم الانسانية وتحقيق العلمية في دراستها، حيث يرى بأن وضعية العلوم الانسانية لهي أشد تعقيدا، وذلك لأن الذات التي تلاحظ أو تجرب على ذاتها أو على غيرها من الذوات قد تعرض لها من جهة تحولات صادرة عن الظواهر الملاحظة، بل وبشأن سياق هذه الظواهر، بل وبشأن طبيعتها في ذات الآن صعوبات إضافية بالقياس إلى وضعية العلوم الطبيعية التي يمكن الفصل فيها، بوجه عام بين الذات والموضوع.
يمثل العمل الإجماعي- التفلسف- معالجة فلسفية وبيداغوجية لبعض المفاهيم والقضايا، وتقدم مساهمة
"فرنسوا باستيان" تحليلا لرهانات العلوم الاجتماعية أو الانسانية في ضوء تعقد الموضوع وتداخل المناهج (مفارقة علاقة الذات بالموضوع) حيث تتمثل المفارقة غير القابلة للاختزال لدى الباحث الاجتماعي في كونه لا يستطيع الانفصال كلية عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته، في حين يعتبر هذا الانفصال مبدأ كل جهة علمي، غير أن هذا التوجه الوضعي الذي استلهم المنهج التجريبي، والذي أثبت نجاحه في العلوم التجريبية وقال بإمكانية بناء الظاهرة الانسانية، واجه انتقادات تصب كلها في إثارة إشكال التداخل بين الذات والموضوع وهذا الإشكال هو الذي يجعل كل موضعة، بالمعنى التجريبي، صعبة المنال، إن لم نقل مستحيلة، وفي هذا النطاق تنكشف طبيعة هذا التدخل وما يطرحه يتبين من خلال هذه العناصر أنه لا يمكن الحسم بخصوص موضعة الظاهرة الإنسانية، فالقول بذلك يفيد التماثل بين بنية الذات- الموضوع في العلوم الحقة وبنية علاقة الذات- الموضوع في العلوم الانسانية، وهو تماثل لا يصمد أمام الانتقادات الموجهة له، وما ينتج عن ذلك من تأثير سلبي على مكانتي كل من التفسير والفهم، الشيء الذي يطرح إشكالية يمكن إدراجها على النحو الآتي: - كيف تتحدد وظيفة النظرية العلمية؟
-II- علوم الإنسان بين التفسير والفهم:-
- تحتل عملية التفسير مكانة خاصة في العلوم الحقة، بل يمكن القول إنها تمثل مع التنبؤ النواة الصلبة للعقلنة الطبيعية وترييضها، إنها عملية عقلية تسمح باستنتاج اللاحق من السابق، والظواهر في القوانين باسم الضرورة المنطقية التي لا تسمح فقط بالتفسير بل أيضا بالتنبؤ. فهل يمكن القول بإمكانية التفسير بهذا المعنى في العلوم الانسانية؟
للإجابة عن هذا التساؤل وغيره، لابد لنا من أن ننفتح على تصور جيل غاستون غرانجي حيث يطرح هذا الأخير إشكالية الفهم في العلوم الانسانية وعلاقته بالتفسير العلي، حيث تتشكك النظريات العلمية في ميدان العلوم الانسانية، حسب غرانجي، في صورة أبنية عقلية حيث يرى بان نشاط العقل فيها يتراوح بين نموذجين معرفيين التفسير باعتباره كشفا موضوعيا، بوصفه نشاطا عقليا تأويليه يستخلص الدلالات والقيم، فالتفسير من وجهة نظر غرانجي مفاده كشف العلاقات المدروسة تنشأ عنها، وهذا المنهج التفسيري بطبيعة الحال يسلكه أو يسلك مساره العالم الفيزيائي، حيث يعمل جاهدا هذا الأخير على صياغة ثلة من الظواهر المعقدة في منظومة مبسطة من العلاقات تشكل هاته الأخيرة ترسيمة أو خطاطة صورية للظاهرة موضوع الدراسة، ولان كل تفسير سوء هذا سيتجاوز أو يتخطى نطاق العلم ليلتحق بركب الأسطورة والسحر، فهي لا تقف عند حدود التفسير بحيث لا يمكن تفسير الأفعال بل نسعى إلى فهمها، ومعنى هذا أننا نصبو إلى نقل إحساس أو تقدير أو انفعال ما بصورة حدسية، في هذا الصدد نجد بأن علماء النفس وعلماء الإجتماع ينزعون -عموما- إلى اختزال صياغاتهم الصورية للوقائع وردها إلى أوليات مستمدة من طبيعة الواقع المعيش ثم تقديم تأويل يرمي أو يهدف إلى فهم الفعل الإنساني، وبالتالي كان الفهم مشروعا لا محيد عنه ومن تم وجب القول أن الظاهرة الانسانية لا يمكن تفسيرها تفسيرا سببيا بالكشف عن العلاقات الثابتة والقوانين التي تنتظمها، هنا يستند غرانجي بفكرة أساسية مؤداها أن المعرفة أي معرفة الوقائع تتأسس على الفهم، حيث يرى بأن الفهم منهج يتيح إمكانية تأويل الظاهرة الإنسانية ودلالاتها، وعلى الرغم من ذلك نجد بأن غرانجي يكشف لنا عن محدودية منهج الفهم، حينما يستفيض في حديثه، ويقول: "المعرفة التي تتأسس على الفهم فقط هي معرفة مسرفة في مقتضياتها ومطالبها ومقصرة فيها بان واحد" ثم إن الرغبة في فهم جميع الظواهر، تجنح بالمعرفة في متامات الأسطورة والسحر، من هنا يكشف لنا هذا الأخير عن حدود المقاربة التفهيمية وعوائقها الإبستيمولوجية في هذا الصدد يتضح لنا مليا أن غرانجي يصوغ أطروحته حول محدودية منهج الفهم في تمثل الأفعال الإنسانية، معتمدا على تقنيات حجاجية، وذلك لإثبات أطروحته وتعزيزها، كذلك يبرز لنا غرانجي موقف الفهم، ويرى بأن هذا الأخير مهما كان موقف مشروعا لا محيد عنه، فإنه، مع ذلك، يضع عائقا جسيما أمام فعالية العقل في العلوم الإنسانية...
في هذا الصدد نجد بأن جول مونرو يتساءل حول الفهم كمنهج تأويلي وأهميته في استخلاص دلالات الظواهر الإنسانية، على خلاف جيل غاستون غرانجي، يمنح مونرو للفهم قيمة أساسية تتمثل في استخلاص المعاني والدلالات من التجارب الوجودية المباشرة، فالخاصية المميزة لظاهرة الفهم هي البداهة والوضوح، وما يكون موضوع تفهم يكون على قدر من الوضوح وما يكون كافيا ومكتفيا بذاته، فمن المستحيل سيكولوجيا الشك في البداهة بل يتعين التسليم بها، فالبداهة تأخذ شكل معرفة مباشرة حالما عرضت لنا بوصفها بداهة، وكل محاولة نقوم بها لتأسيس البداهة على أساس الاستقراء هي محاولة ستفضي إلى تفويضها فالفهم حسب مونرو هو فعل معرفي مباشر بدون طرائق موضوعية.
لقد اعتمد بوبر على نقد الحتمية التاريخية كما تتجلى في العلوم الاجتماعية، إذ يرى أن النظريات العلمية لا يمكن التحقق من صحتها تجريبيا، ومن تم فإن معيارية علميتها تستمد من قابليتها للتكذيب أو قابليتها للرفض، ومن هنا فمعيار العلم معيار سلبي وليس معيارا إيجابيا في ظل السياق النقدي لمسألة العلمية في العلوم الانسانية نرى بأن جوليان فروند يضعنا في صلب النقاش التاريخي الذي ساد في أواخر القرن التاسع عشر، حول الفروق المنهجية والإبستيمولوجية التي تميز العلوم الدقيقة عن العلوم الانسانية، ولكي تثبت الأنتروبولوجيا- بوصفها علما إنسانيا مقارنة بالعلوم الدقيقة أو بالعلوم الانسانية الأخرى، قيمتها كعلم كان عليها أن تتوجه نحو موضوع شكل بؤرة للعلوم الإنسانية، وهو الثقافة.. بيد أن حداثة وجدّة الأنتروبولوجيا في الميدان لم تمنع علمائها من الاستفادة من المناهج العلمية التي سبقتها ومن ابتكار مناهج وطرق علمية جديدة تلائم موضوعاتها (مالينوڤسكيMalinowski)
يجيب "كلود ليفي ستروس" عن هذا السؤال الذي قد طرحناه سالفا متحفظ نوعا ما، حيث يرى أن تعبيرات العلوم الإنسانية فضفاضة، وتنبؤاتها غير أكيدة، فهي في وضعية إبستمولوجية حرجة تلزمها أن تكون وسط طريق بين التفسير والتنبؤ لأن موضوعها يستعصي على التعريف العلمي الدقيق الذي يسمح بتفسير الظاهرة المحددة، وبالتنبؤ بردود فعلها وتوجهاتها، ليس للعلوم الإنسانية إذن، من خيال آخر، إما أن تحدد موضوعها بشكل دقيق كالعلوم الحقة، فتفقره وآنذاك يمكنها أن تفسره، وإما أنها تحافظ عليه فتبقى في نصف الطريق بين التفسير والتنبؤ، بين المعرفة الخالصة من جهة والفعالية من جهة ثانية، في هذا المضمار يرفض "دلتاي" هيمنة نموذج العلوم الحقة على العلوم الإنسانية بالنسبة له تفهم ولا تفسير: فهي ظاهرة شمولية تخص إنسانا لا يعطى إلا كليا، ظاهرة يتداخل فيها ما هو نفسي مع ما هو اجتماعي، وتتأطر ضمن تاريخ يعتبر متفردا، إن المناهج الموضوعية التي تعتمد على المعايير الخارجية تعجز عن النفاذ إلى المعنى العميق لتجربة كلية تأخذ شكل "كل معيش". إن الفهم والتأويل هما اللذان يقودان إلى النفاذ داخل الحياة الدالة تأسيسا لما سبق نستشف من خلال التوثر القائم بين الفهم والتفسير أن الرهان الحقيقي هو رهان نموذجية العلوم التجريبية بالنسبة للعلوم الانسانية، فإلى أي حد يمكن الاستفادة من هذا النموذج؟ ألا يتعلق الأمر بمشكل زائف؟
-III- مسألة نموذجية العلوم الانسانية:
إن الخلاف حول نموذجية العلوم الانسانية بدأ يظهر خلال القرن التاسع عشر عندما بدأت العلوم الطبيعية تستقر، حينما بدأت الدعوة إلى دراسة العلوم الانسانية دراسة موضوعية واختيار النموذج العلمي المناسب لذلك، واعتبار الظواهر الانسانية كجميع الظواهر الفيزيائية يمكن أن نعتمد في دراستها على المنهج العلمي.
ومن هنا بدأت تظهر وجهات نظر متعددة سواء تعلق الأمر بالموضوعات التي تناولتها العلوم الانسانية أو بالمنهج المناسب لها.
وإذا كانت العلوم الفيزيائية تتناول بناء المادة والقوى التي تعمل في هذه المادة، فإن العلوم الانسانية تتناول بناء  المجتمع والقوى التي تعمل فيه.
فما هو إذن النموذج العلمي الملائم للعلوم الانسانية؟ وهل يمكننا دراسة الظاهرة الإنسانية بنفس الكيفية التي ندرس بها الظاهرة الفيزيائية؟ أم هناك نموذجا آخر للعلمية مناسب لدراسة هذه الظاهرة، وإذا اعتمدنا المنهج العلمي كنموذج لدراسة الظاهرة الإجتماعية ألا يكون الأمر أصعب مما نتوقع باعتبار أن السلوك أو الفعل الإنساني هو فعل ذو معنى وبالتالي فالظاهرة الانسانية هي ظاهرة معقدة.
يضعنا النص الذي كتبه الفيلسوف والمنطقي المعاصر جان لادريير Jean Ladrière 1921 أمام إمكانيتين في تناول ودراسة الظاهرة الإنسانية، تتمثل الإمكانية الأولى في المنهج الذي يتبعه دوركهايم والذي يستمد جذوره من الفلسفة الديكارتية، ويندرج هذا المنهج في إطار ما يمكن تسميته بالمنهج أو الاتجاه الوضعي أو الطبيعي، هذا الأخير الذي يؤكد على وحدة المنهج بين كل من الظواهر الفيزيائية والظواهر الإنسانية معتبرا أن الشروط المنطقية المتوفرة في الظاهرة الفيزيائية تتوفر كذلك في الظاهرة الإنسانية، وبالتالي فالظاهرة الانسانية يمكن اعتبارها كشيء ودراستها دراسة موضوعية من خلال وضع ذات الباحث وما يرتبط بها من دلالات وقيم...بين قوسين.
في مقابل هذا الاتجاه نجد الاتجاه الذي يقر به الفيلسوف ماكس ڤيبيرWeber Max 1864، والذي يمكن تسميته بمنهج الفهم الذاتي الذي يهدف إلى فهم وتأويل الظاهرة الانسانية أو السلوك الإنساني من أجل الوصول إلى مسار هذا السلوك ونتائجه معتبرا أن كل سلوك هو ببساطة الأمر سلوك هادف، أي أنه يتجه نحو تحقيق أهداف وغايات معينة، ومن هنا يكون لكل سلوك إنساني غايات وأهداف تحددها الذات.
يقف جان لادريير موقف إشكال إزاء كلا التوجهين المعتمدين في دراسة الظاهرة الانسانية معتبرا أننا إذا اعتمدنا التوجه الأول (المنهج الوضعي)  ستكون إزاء تشييء الظاهرة الإنسانية، وبالتالي سنجدها من كل ما يرتبط بها من مقاصد ونوايا ودلالات وقيم وغايات التي تتحكم في الفعل الإنساني وتكون موجها له، وفي المقابل إذا اعتمدنا التوجه الثاني (منهج الفهم الذاتي) في دراسة السلوك الإنساني، ألا نكون متقيدين إزاء ذلك المنظور الذاتي وبالتالي نفتقد للموضوعية التي تسعى تحقيقها في كل دراسة.
يقف لادريير موقف تساؤل من كل ذلك ويعتبر أنه بإمكاننا أن نعتمد في دراسة الظاهرة الإنسانية والاجتماعية نموذجا للعلمية يختلف على نظيره في مجال العلوم الفيزيائية دون وضع تمييز بين الظاهرة الفيزيائية والإنسانية، وهذا المنهج يكون ملائما للظاهرة المدروسة، وإذا كان جان لادريير يقر بضرورة إيجاد نموذج للعلمية مناسب للظاهرة المدروسة وتكييفه معها، فإن الفيلسوف الفرنسي إدغار موران    Edgar Morin 1921 ، يميز بين ضربين في المعرفة الانسانية، الخطاب السوسيولوجي الذي يطمح إلى بلوغ قدر أكبر من الموضوعية من خلال تحرره من الثقل الميتافيزيقي، واعتماده المنهج العلمي، وبالتالي فإن هذا النوع من السوسيولوجيا يحتل الصدارة بالمقارنة مع أنماط الخطاب السوسيولوجي الأخرى، ويتخذ هذا النمط من الخطاب السوسيولوجي النموذج الفيزيائي كنموذج أمثل بالنسبة له، وباعتماده المنهج العلمي، وبالتالي فإن هذا النوع من السوسيولوجيا يمثل الصدارة بالمقارنة من أنماط الخطاب السوسيولوجي الأخرى، ويتخذ هذا النمط من الخطاب السوسيولوجي النموذج الفيزيائي كنموذج أمثل بالنسبة له، وباعتماده المنهج العلمي، فهو يهتم بتحديد القوانين والقواعد التي تؤثر في الظاهرة المدروسة من خلال العلاقات السببية، مستبعدا كل ما يتعلق بشروط الملاحظة وكل ما يرتبط بذات الباحث، أي كل ما هو خارجي بالنسبة للظاهرة المدروسة.
وهناك خطاب سوسيولوجي آخر يتقابل مع النمط الأول من الخطاب السوسيولوجي، وهذا الخطاب يسميه إدغار موران بالسوسيولوجية الإنشائية فكيف يحددها لنا إدغار موران؟ وما مدى الصلاحية الإبستمولوجية للنموذج الفيزيائي في هذا النمط  من الخطاب السوسيولوجي والذي سماه بالسوسيولوجيا الإنشائية؟ وما هو الأساس الإبستمولوجي لهذا النوع من السوسيولوجيا؟ وما هو التصور الجديد الذي أعطاه موران من خلال هذا النمط من الخطاب السوسيولوجي؟
يعتبر إدغار موران أن السوسيولوجية الإنشائية هو نمط من أنماط الخطاب السوسيولوجي المعاصر، لكنه لم يتحرر بعد من الثقل الميتافيزيقي والتأمل الأخلاقي، بل أنه لا زال محتفظا بالنظر التأملي في جوهر الموجودات ، فهو يفترض وجود ذوات أو قوى فاعلة تساهم وتؤثر في الظاهرة الاجتماعية، ومن هذا المنطلق فلا يمكن اعتماده على النموذج الفيزيائي وبالتالي على المنهج العلمي مما يجعله يفتقر إلى الموضوعية.
إن هذا النمط من السوسيولوجيا تحضر فيه ذات الباحث بشكل كبير في موضوع البحث، لكن حضور الذات هنا ليس بالمفهوم الميتافيزيقي، فالذات تحضر بكونها أساسا بيولوجيا، هذا التغير في مفهوم الذات الذي دشنت له البيولوجيا يجعل من الإنسان موجودا يضع ذاته وسط عالمه وبالتالي فالإنسان يصبح متضمنا في الظاهرة المدروسة أي أنه يصبح ذاتا وموضوعا في آن واحد، ويتجاوز كل تعال عن عالمه الذي يعيشه .
ويخلص موران إلى أن السوسيولوجيا رغم تشبثها بالعلمية ومحاولة تطلعها للنموذج الفيزيائي فإنها تبقى مرتبطة بالذات حيث لا يمكن عزل الظاهرة أو الموضوع المبحوث ودراسته بصورة تجريبية هذا يعني أنه مهما حاولنا موضعة الظاهرة الاجتماعية فإن ذات الباحث تبقى حاضرة بشكل واع أو بدون وعي في الموضوع المدروس.
لكن هل هذا الوجود لذات الباحث في الظاهرة المدروسة قد يؤثر بشكل سلبي من الناحية الموضوعية؟ وكيف تساهم الذات في تحديد الوضع الإبستمولوجي للعلوم الانسانية؟
يعتبر كل من طولرا ووارنيي أن العلوم الانسانية حديثة النشأة (ق19) وأن مجالها اعقد من مجال العلوم الطبيعية، إذ أن هذه الأخيرة نعتمد في دراستها على التجربة الدقيقة الشيء الذي يجعلنا نخلص إلى نتائج يقينية، أما بالنسبة للعلوم الانسانية فإننا قد نجد بعض الصعوبات في ذلك، ومنه فإن حضور الذات داخل الظاهرة الانسانية أو حضورها كذات وموضوع في نفس الآن أمر يسهل علينا التعامل معها ودراستها، ذلك لان الذات تكون على علم كامل بكل ما يحيط بها وما يصيبها أحيانا من تناقض ومن تغيرات مفاجئة وتلقائية، ولذلك فإن الابستمولوجيا المعاصرة تركز بشكل كبير على حضور الذات في دراسة الظاهرة الانسانية، وذلك بهدف الإحاطة بشكل كامل بالموضوع .

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مفاهيم سوسيولوجية المدينة